U3F1ZWV6ZTE2NDAzNzE1MDYwMTE2X0ZyZWUxMDM0ODg4MTkwMzEzNw==

تكنولوجيا متطورة في مصر القديمة : صناديق السرابيوم

تكنولوجيا متطورة في مصر القديمة : صناديق السرابيوم

معبد السرابيوم (سقارة) يوجد به 26 صندوقا ضخما من الجرانيت مُتقن الصنع.
يزن غطاء الصندوق 30 طنا.. وجسم الصندوق نفسه 70 طنا.. أي أن كل صندوق يقارب من 100 طن.. وهذا يعني أنها تحتاج إلى ما يقرب من 500 رجل لتحريك كل صندوق منها.
هل فعلا هذه توابيت العجل أبيس كما كشفها وأخبرنا ميريت باشا؟
لماذا لم يُعثر في أي صندوق منهم لأي مومياء أو جثة لجسد العجل أبيس؟
من صنعها وكيف.. ولماذا صُنعت.. ولماذا هي شديدة الضخامة.. ثم في النهاية كيف نقلوها إلى داخل دهاليز السرابيوم؟
إذا كانت أهرامات الجيزة هي الآثار الأضخم والأعظم فإن السرابيوم هي أكثر الآثار الملغزة المسببة للحيرة والإرباك في العالم!
نبدأ أولا بالرواية الرسمية عن السرابيوم:
السرابيوم هو اسم يطلق على كل معبد أو هيكل ديني مخصص لعبادة إله الوحدانية سيرا بيس، وهي عبادة مقدسة في مصر في العصر البطلمي لها أبعاد سياسية تهدف إلى جعل كلاً من المواطنين من هم ذات أصول إغريقية ومن هم ذوي أصول مصرية يشتركون في عبادة الإله الحامي الذي توحدت فيه صفات الإلهين الإغريقيين زيوس وهاديس مع صفات الإلهين المصريين أوزوريس وأبيس. كان هناك العديد من دور العبادة لهذه الديانة، وكان يطلق على كل واحدة منها باللاتينية: Serapeum أو بالإغريقية: Serapeiom) Σεραπεῖον).
الإله المصري الهيليني سيرابيس
كلف بطليموس الثالث المهندس المعماري “بارمينيسكو” بمهمة إعادة تأسيس المبنى ويضم المعبد تمثال للإله سيرابيس. يأتي سيرابيس على شكل رجل ملتح جالس على عرش يحمل على رأسه سلة مليئة بالبذور وفي يده اليسرى المرفوعة يحمل صولجان طويل في حين أن يده اليمنى متكئة على رأس الكلب كيربيروس.
يعد سرابيوم سقارة من أهم المقابر التي بنيت في ممفيس وهو يقع في مجمع مدافن العجل أبيس ويعكس مظهر من مظاهر المعيشة للإله بتاح.
إن المدافن الأكثر قدماً للعجول المقدسة المحنطة والمحفوظة داخل نواويس يرجع تاريخ إنشائها إلى عهد أمنحتب الثالث. وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد قام ابن رمسيس الثاني خمواس بحفر نفق في أحد الجبال منحوت على جوانبه محاريب يوجد بها نواويس العجول.
بنى إبسماتيك الأول نفق ثاني يبلغ طوله 350 متر وارتفاعه 5 أمتار وعرضه 3 أمتار، استخدمه البطالمة فيما بعد. من المرجح أن يكون الممر الذي يتكون من 600 تمثال لأبي الهول والذي يربط الموقع بالمدينة أحد اعمال نيكتابيو الأول.
اكتشف عالم المصريات أوجست مارييت السرابيوم وهو الذي نقب عن الجزء الأكبر من المجمع لكن المخطوطات التي كتبها بشأن هذا الأمر قد فقدت وهذا يحد من إمكانية استخدام المقابر لتكوين تسلسل زمني للتاريخ المصري.
تكمن المشكلة في حقيقة أن في الفترة ما بين عهد رمسيس الحادي عشر إلى السنة الثانية والعشرين من عهد أوسركون الثاني وهي فترة تقدر بنحو 250 عاماً تم التوصل فقط إلى تسعة من مدافن العجول، هذا العدد يشمل أيضاً ثلاثة مدافن ليست موجودة حالياً وإنما شوهدت من قبل مارييت الذي قال إنه عثر عليها في غرفة تحت الأرض غير مستقرة تماماً بحيث يمكن التنقيب عنها. يرجح علماء المصريات أنه كان من المفترض أن يكون هناك عدد أكبر من مدافن الثيران في هذه الفترة بما إن متوسط عمر الثور كان ما بين 25 إلى 28 سنة إن لم يمت قبل ذلك.
هناك أربعة مدافن نسبها مارييت إلى عهد رمسيس الحادي عشر تم تأريخهم بتاريخ رجعي، مما خلق هذا فجوة زمنية ما يقرب من 130 عاماً حاول الباحثين سدها بشتى الطرق. ووفقاً للبعض، فإنه يجب إعادة النظر في التسلسل الزمني كله، ووفقاً لباحثين آخرين فإن هناك مدافن أخرى للثور أبيس لم يتم اكتشافها بعد.
انتهت الرواية الرسمية – والمراجع مذكورة في أسفل المقال (1)(2)(3)
هناك شيء شائع مشترك في المراجع الرسمية التي تتحدث عن آثار مصر القديمة وهي أنها تُركز دائما على المعتقدات الدينية والأحداث التاريخية، فنجد تفاصيل عديدة تتحدث عن الإله سرابي، والسرابيوم كمعبد، ونشأته، وقدسية العجل أبيس، ومكانة أبيس عند المصري القديم.. إلخ.. أو أحداث تاريخية كأن نقول إن المقبرة حفرها الملك فلان من ملوك الدولة الوسطى، ثم أكملها الملك فلان من ملوك الدولة الحديثة.. الخ.
نجد ذلك في تأريخ الآثار العديدة كالأهرام ومعابد الأقصر أو الكرنك أو غيرها
لكن قلما نرى دراسة عميقة في الإعجاز الهندسي الذي قامت عليه الحضارة المصرية.. ومنها صناديق سقارة المذهلة.
إن صناديق السرابيوم بل والنفق ذاته طفرة حضارية معمارية لا مثيل لها.
وبشكل شخصي فإني لا أُصدق – بل ولا أهتم – بالرواية الرسمية عن السرابيوم، فهل كان البطالمة سُذج إلى حد تأسيس إله عبارة عن كوكتيل آلهة (اثنان إغريقيان واثنان مصريان) من أجل إرضاء جميع الأطراف ولم الشمل؟
هل نتخيل مثلا أن بطليموس الثالث (حاكم مصر في ذلك الوقت) قد خرج وأعلن على الملأ ميلاد إله جديد مشترك لجميع الأديان؟! – ما هذا السخف والعبث؟ – هذه الروايات الموجودة في المراجع الرسمية والتي للأسف لا تُقنع طفلا صغيرا بل وتزيف التاريخ وتأخذه في منحنى غير حقيقي.

أنفاق السرابيوم
عند وقوفك أمام باب أنفاق السرابيوم.. ستقع عيناك على اللوحة الرسمية، ومكتوب عليها (السرابيوم – من الأسرة 18 حتى بطليموس الثاني عشر).. تناسى المكتوب لأن ما ستراه سيجعلك موقنا أن الأسماء المكتوبة على تلك اللوحة لا علاقة لها بالألغاز الهندسية الجاثمة بالداخل. ,وأطلب منك عزيزي القارئ زيارة السرابيوم في منطقة سقارة الأثرية  في أقرب فرصة لمعايشة تلك الأعجوبة بنفسك.
سراديب السرابيوم في ذاتها لغز مُعضل، في الصيف تجدها باردة، وفي الشتاء حارة يتصبب عرقك فيه، الأنفاق بطول 400 متر محفورة في قلب صخر هضبة سقارة وليست وسط الرمال والنفق تنزل له بسلم مدرج، وإذا نظرت لخريطة الأنفاق بالأسفل ستجد تفريعات عديدة.. في النفق الرئيسي عند تلك الفراغات الظاهرة في الخريطة توجد الصناديق، كما أن هناك تفريعات أخرى ستراها كذلك.
خريطة أنفاق السرابيوم
وإذا نظرنا إلى الممر الرئيسي وجدناه على استقامة واحدة.. هل يُمكن أن يكون هذا النفق الطويل قد حفر فقط بواسطة المعاول؟
أنفاق السرابيوم ليس لها إلا باب واحد يُعتبر هو المدخل والمخرج، فالرؤيا بداخل الأنفاق حتى مع وجود الشمس معتمة للغاية، ظلام تام، فهل حفروا كل تلك المسافة بذلك العُمق في وأخرجوا ردما بالأطنان على أضواء المشاعل النارية؟
هل تستطيع يد بشرية أن تحفر نفقا بتلك الدقة والاستقامة لهذه المسافة ؟
من الغريب أنه لا يُوجد أي آثر لمواضع المشاعل على جدران النفق، كما أن أي مشاعل نارية في ذلك العمق مع الردم والأتربة سيكون عملا شاقا وخانقا.. هل نستطيع أن نقول إن السرابيوم هو دليل في حد ذاته على أنه كان هناك كهرباء في مصر القديمة؟
انظر إلى استدارة النفق واستقامته، هل تستطيع يد بشرية أن تحفر نفقا بتلك الدقة والاستقامة لهذه المسافة، أم يمكن القول إن هذا مستحيل دون وجود آلة حفر؟
ذلك أن الأنفاق ليست محفورة في الرمال، لكنها محفورة في صخور سقارة، وهو ما يتطلب بالتأكيد مجهودا مضاعفا لا يُصدق أن يتم عبر اليد البشرية وحدها، ولكنها آلات قوية ومتقدمة أنجزت هذا العمل. إذا نظرنا إلى حضارتنا المعاصرة فسنجد أننا لحفر نفقا مثل هذا فإننا سنحتاج إلى ماكينة حفر أنفاق Tunnel Boring Machine.
ماكينة حفر أنفاق Tunnel Boring Machine
هل يبدو لك استخدام آلة منطقيا حتى وإن لم نعثر عليها؟ لقد تم تفريغ الأنفاق من آلاف الأطنان من الصخور وحفرها وذلك لإنجاز مهمة محددة، وليس لمجرد أن تكون مقابرا لمومياوات العجل أبيس التي لم نر لها أثرا حتى الأن – بما فيها المتحف الزراعي الذي أشار ميريت إلى مومياء العجل الوحيدة التي وجدوها هناك!

من العسير رغم ما نحن فيه من تقدم في القرن 21 أن نقوم بعمل كهذا، رغم كل ما نعيشه من تقدم ورفاهية في الحياة المعاصرة
تلك الأنفاق لا تمت بصلة للحضارة الفرعونية، بل بحقب مصرية أقدم من ذلك لا يعرف أحدا عنها شيئا، إن نفق السرابيوم وحده لغز أما الصناديق فهي مُعجزة أُخرى.
هندسة فريدة!
Saqqara_Boxes (1)
أحد الباحثين يقوم بعمل قياسات لأحد الصناديق
الصناديق الجرانيتية الكبيرة الموجودة في المتحف المصري في الدور الأرضي أو في حديقة المتحف محيرة للعقول وتُجهد التفكير لمجرد فهم كيف صُنعت؟ لكن حينما تقع عينيك على صناديق السرابيوم فستنسى على الفور صناديق المتحف المصري بل وستبدو كما لو كان مهمة سهلة بجوار السرابيوم.
إن هذه الصناديق لم يتم بناؤها ولكنها نُحتت. كأي صندوق هو عبارة عن 4 جوانب وقاعدة وغطاء. جسد الصندوق نفسه نُحت عن طريق اقتطاع كتلة مصمتة من الجرانيت بأنواعه المُختلفة التي تحدثنا عنها من المحاجر الموجودة في جنوب البلاد، في الأقصر وأسوان والسودان وسيناء والبحر الأحمر والفيوم.
Saqqara-Box
صورة توضح ضخامة حجم صناديق السرابيوم ثم لاحظ كيف أن مكان الصندوق ضيق للغاية، كم هي مهمة مستحيلة وضعه في هذا المكان !
ثم بعد اقتطاع تلك الكتلة المُقدرة بـ 80 طنا تقريبا من المحجر، يتم حفرها وصقلها، وبعد ذلك يتم نحت الغطاء.
الصناديق كُلها مصنوعة من صخور عالية الصلادة (الجرانيت الأحمر – الجرانيت الأسود – البازلت – الكوارتز) وهي صخور لا يمكن التعامل معها بالأدوات التي كانت تُستخدم في عصر الأسرات وهي على التوالي (الحجارة – النحاس – البرونز – ثم الحديد في العصور المتأخرة) كلها لا يمكنها التعامل مع الجرانيت إلا بصعوبة بالغة كما أن تعجز عن الصقل بهذا الشكل، إن هذا كمن يريد قطع الخشب بواسطة منشار ورقي.
إن هذا يتطلب إما مناشير صلب أو أدوات بسنون ماسية، أو ربما قواطع ليزر!
بل إن وجود ماكينات ومناشير آلية كذلك لا يكفي ولا يُفسر صناعة الصناديق.
كل صندوق يقع في  ممر ضيق كما أوضحنا .. ذلك الممر لا يتسع لأكثر من 50 شخصا محشورين بالكاد .. لتحريك صندوق واحد فقط تحتاج إلى 500 شخص إذا افترضنا أن ذلك سيتم بالوسيلة اليدوية، أين سيقفون .. وكل سيعملون معا .. ؟
حفر الصندوق نفسه مُحير إذ كيف قاموا به؟
حقر الصندوق تم بطرق بدائية مثل تلك .. هكذا يعتقد الأكاديميون
يتبنى علماء المصريات والأكاديميون الحفر بأدوات بدائية، وهي عبارة عن عصا من النحاس يتم تدويرها بقوس خشبي وخيط، ثم يتم تكرار العملية حتى يتم حفر الصندوق .. بعد ذلك تتم مساواته بأحجار الديوريت. هذا الطرح يُثير الكثير من الأسئلة ..
إذا كانت تلك هي الطريقة .. فكم سيستغرق الوقت لعمل صندوق واحد فقط .. ؟ وهل يكفي تبني فكرة أن قدماء المصريين كانوا متفرغين تماما لتلك الأعمال ؟
لا يتعلق الموضوع بعدد من شاركوا في نحت الصناديق، فمهما أضفت من أعداد العمال فلن يؤدي هذا إلى خروج الصناديق بتلك الدقة. إن هذا الصناديق تنفي تماما تبني عملها بآلات بدائية .. وإلا لما حصلنا على درجة الاستقامة الموجودة.
إذا أردنا اليوم صناعة سيارة متطورة، فإننا لن نحشد جيش من مائة ألف عامل، إن كل هؤلاء لا يفيدوا في شيء، البديل هو أن تجد 30 أو 40 شخصا يجيدون العمل على تقنيات متطورة وسيخرجون لك سيارة رائعة المواصفات، هذا بالظبط نفس ما حدث مع الصناديق، ليست الإجابة في وجود ولو حتى مليون عامل، فلن يستطيعوا عمل شي.
لا شك أن المعاول وآلات الطرق البدائية لا يُمكنها أن تُخرج مثل هذا المُنتج الهندسي الفريد، فجميع زوايا الصندوق الداخلية والخارجية عبارة عن 90 درجة كاملة، ليست 90.1 ولا 89.9.
أيضا مُعامل التسطيح أو الـ Flatness بنسبة خطأ أقل من 0.02%، وهي درجة لا يُمكن بلوغها في العصر الحديث إلى باستخدام آلات عالية الدقة، أو تقنية بصرية ضوئية، وذلك للحصول على التسطيح التام.
كريستوفر دان يقوم بعمل قياسات دقة لأحد صناديق السرابيوم .. الزوايا 90 درجة بدقة تامة
الصندوق نفسه مصقول بدرجة تجعل ذهنك يتطلع إلا أن هناك ماكينات أو تقينه ُمتقدمة قد قامت بصقله. فدرجة الصقل عالية داخل الصناديق وعلى بعض أغطيتها، إن ذلك يدل على تقنية مُتقدمة استخدمت في مصر القديمة لإنتاج هذه الصناديق الحضارية!
الصناديق بالداخل مصقولة ولامعة، تعكس ضوء المصابيح رغم مرور آلاف السنين
يأتي على الذهن سؤالا بينما نشاهد تلك الصناديق.. لماذا نُحت قدماء المصريون هذه الصناديق بتلك الدقة العالية من صخر عالي الصلادة .. مالذي كان سيضير إذا كانت الصناديق من حجر جيري أو من الخشب إذا كانت فعلا لدفن أبيس ؟ ولماذا صنع الصندوق من قطعة واحدة ؟ لقد كان باستطاعتهم أن يقوموا بعمل الصندوق بـ 5 ألواح.. الأربعة جوانب والقاعدة.. فلماذا قاموا بعمله من قطعة واحدة فقط ؟
إن هذا يقفز بالعمل من درجة “شديد الصعوبة” إلى درجة “مستحيل”.. لقد سببت الدقة صدمة لكل من رآها، لأن “الدقة” في تلك الصناديق، لا ريب مكلفة بل وباهظة الثمن، فلماذا لجأوا إليها ؟ في تلك النقطة في أنني أجد نفسي بين إجابتين ..
أولهما أن الصناديق كانت كذلك من أجل تأدية وظيفة هندسية محددة .. ولذلك كان لابد أن تكون الأنفاق بهذا العمق والصناديق بتلك الهيئة ليمتص ضغط قوي داخله، ذلك الضغط كان سيدمر أي وصلات أو لحامات بين الأجناب ولذلك فكان يجب أن يكون الصندوق قطعة واحدة.
الإجابة الثانية هي أن هؤلاء القوم لم يكن يعجزهم شيئ وكانوا يصلون إلى درجة الكمال في كل أعمالهم ويتقنون صناعة كل شيء وأي شي  من قطعة واحدة، كالمسلات، والتماثيل العملاقة، والصناديق الجرانيتية وغيرها. وأجد نفسي أميل أكثر للإجابة الأولى.
Box-55
يوسف أويان ومحمد ابراهيم .. مرشدين سياحين مؤمنين بفكرة التكنولوجيا المفقودة أمام أحد أغطية الصناديق .. قارن بين حجم الغطاء فقط وأحجامنا ليعطيك انطباعا عن مدى التطور الذي وصل إليه القدماء
هل يمكننا نحت صناديق مثل تلك في عصرنا الحالي ؟
Saqqara-Box2-4
مقاس لأحد صناديق السرابيوم .. يعادل تقريبا غرفة كاملة ومن قطعة واحدة
هل يمكننا نحت صناديق مثل تلك في عصرنا الحالي، وكيف يكون ذلك ؟
للإجابة على هذا السؤال قام المهندس الباحث كريستوفر دان أثناء دراسته لتلك الصناديق بمراسلة 4 شركات في الولايات المتحدة متخصصة في قطع الجرانيت والأحجار الصلبة، مع الوضع في الاعتبار أن الولايات المتحدة تضم بالتأكيد أكثر الشركات والآلات تطورا وتقدما في ذلك الشأن .. راسل “دان” الشركات الأربع وأمدهم بالمعلومات عن السرابيوم ليستفهم منهم عن كيفية عمل صناديق مماثلة اليوم. وقام بنشر أحد الردود التفصيلية في كتابه (5).
وقد كان الرد من مهندس الشركة في رسالة قائلا:
عزيزي كريستوفر:
أشكرك أولا على إيفادي بتلك المعلومات القيمة التي لا تُتاح للغالبية معرفتها. لقد أخبرتني أن أحد تلك الصناديق عبارة عن قطعة واحدة من الجرانيت تزن تقريبا 100 طن. بأسعار اليوم تلك القطعة تتكلف 115 ألف دولار (كان ذلك عام 1995)، هذا دون قطع ودون نقل ودون القيام بأي عمل آخر فيها، بل سعر فقط المادة الخام. المشكلة التالية ستكون في نقل تلك الكتلة، سيكون علينا اللجوء إلى هيئة D.O.T (وهي هيئات حكومية ضخمة للنقل) وسيكلفك هذا بالتأكيد عدة آلاف من الدولارات. لقد ذكرت أن المصريين القدماء قد نقلوا تلك الصناديق لمسافة أكثر من 500 ميل. إن هذا يُعتبر إعجازا بالنظر إلى أن ذلك حدث من مئات السنين.
ثم وصلته رسالة أخرى من شركة أخرى حيث يعمل صديقه المختص فيها – السيد (ليثر)- حيث قال فيها : أنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لعمل مثل هذا الصندوق في الوقت الحالي والطريقة التي يقترحها لعمل مثله ستكون من خمس قطع، القاعدة والجدران الأربعة ثم وتركيبها معا. (انتهى الرد).
إذا ملخص ما قيل، أنه لا يُمكن في الوقت الحالي بما توفر لحضارتنا من أدوات أن نقوم بعمل صناديق مماثلة ..
ليس المقصود من تلك القصة إثبات أن قدماء المصريين كانوا يملكون تقنيات لا نملكها الآن. لكن الهدف هو التأكيد على أن ما يتم عرضه في المتاحف من أدوات رسمية كالأزاميل النحاسية وأحجار الديوريت لا يُمكنها أن تفي بذلك الإنجاز، وأن تكرار عمل كهذا اليوم سيتطلب وجود تقنيات عالية المستوى، لا تتوفر لمؤسسات عادية أو أفراد. بل سيحتاج إلى تدخل جهات علمية مثل ناسا أو سيرن أو غيرها من مؤسسات رفيعة المستوى. ومن ثم يُمكن القول إن في مصر القديمة كان تملك جهات تنفيذية على نفس رقي ناسا وسيرن.
حينما سُئل دكتور زاهي حواس عن رؤيته كيف وضعت تلك الصناديق في ذلك النفق الضيق كانت إجابته.. أن جميع علماء المصريات ليست لديهم أي فكرة عن كيفية وضع الصناديق بهذا الشكل. (6)
صندوق محطم!
هكذا نسف ميريت جزء من غطاء الصندوق المغلق بواسطة بارود البنادق !
حينما كشف ميريت باشا أنفاق السرابيوم.. وجد أغطية جميع الصناديق مواربة.. أو مفتوحة.. أي أنه كان باستطاعة رؤية ما بداخلها إلا هذا الصندوق التي توجد صورته بالأسفل، فقد وجدوا الغطاء مطبقا تماما على الصندوق.. وبما أن الغطاء وحده يزن ما لا يقل 30 طنا أي أنه يحتاج إلى ما يقل عن 150 رجلا قويا يقفون في مساحة شديدة الضيق ويسحبون بالحبال ذلك الثقل البالغ فقد رأى ميريت باشا أن هذا الحل لن يكون مُجديا لزحزحة الغطاء.. ومن ثم فقد شرع ميريت باشا في تنفيذ حل آخر وهو نسف جزء من الغطاء بواسطة بارود البنادق!
ورغم الاكتشاف العظيم للسراب يوم إلا أن هذا فعلا أحمقا.. وبالطبع لم يكن هذا ليحدث إلا كمحاولة للبحث عن أي ثروات داخل الصناديق
زعم ميريت باشا أن وجد في هذا الصندوق مومياء العجل أبيس.. ومن ثم اعتبروا أن تلك الصناديق هي مقابره المقدسة.. وأن تلك المومياء محفوظة في المتحف الزراعي.. ذهب بعض المُهتمين بهذا الشأن للمتحف الزراعي لرؤية المومياء فلم يجدوا إلا هيكلا عظيما هناك.. مما يُشكك في صحة رواية ميريت.
وهذه الحادثة تُعطينا رؤية عن القوة العلمية الخارقة التي امتلكها أصحاب تلك الصناديق.. الذين فشل اللاحقون في مجرد زحزحة غطاء منهم
صندوق الملك فاروق
هذه القصة أيضا يتداولها حُراس السرابيوم ويرويها المرشدون.. لم أجدها في كتاب لكن الشواهد تُدلل على صدقها.
أراد الملك فاروق إهداء فرنسا أحد صناديق السرابيوم وكان هذا مع الأسف إجراء متبعا من قبل حيث كان الملوك والخديوية يهدون دول أوروبا آثارا وتماثيل مصرية بل ومتاحف كاملة كمتحف فيينا.
تم إخراج هذا الصندوق الذي يزن 70 طنا من مكانه في وتحريكه لمسافة قصيرة لا تزيد عن عدة أمتار فقط لا غير.. ثم أنهم أنزلوا الغطاء من فوق الصندوق لتقسيم الوزن.. فالغطاء يزن وحده ما يقرب من 25 طنا من مجموع وزن الصندوق.. ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا الخروج بالغطاء ولا بالصندوق من المعبد فتركوهما معا.. إنهم حتى لم يرجعوا الصندوق إلى مكانه.. ومن يذهب اليوم سيشاهد الصندوق في أحد الممرات وبجواره الغطاء.
لم أعرف كيف سحبوا الصندوق في عهد فاروق ولكن على يقين أنهم استعانوا بالخيول أو الثيران القوية أو العربات.. ولو افترضنا أن الخيل القوي أو الثور سيسحب نصف طنا فإنهم يحتاجون إلى 60 دابة لسحب الغطاء فقط.. علاوة أن مخرج المعبد عبارة عن منحدر لأعلى مما يجعل من المستحيل سحبه
الصندوق في مكانه مما يقرب من 70 عاما.. وحتى حينما قامت شركة المقاولين العرب بعمل صيانات المعبد لم يُحركوا الصندوق من مكانه.. وأظن أن العقول الحديثة قد هُزمت في تلك المعضلة !
كيف استطاع القدماء إدخال 26 صندوقا من أولئك الصناديق الثقال وتسكينهم في أماكنهم في تلك الأنفاق الضيقة؟!
في أقصى اليمين مكان الصندوق الأصلي الخاوي، وفي الوسط الصندوق نفسه وهو متروك حاليا في إحدى الممرات النفقية وبجواره الغطاء
سرقة حضارية!
هذا هو الصندوق الوحيد المسموح للزائرين بالنزول بجانبه وملامسته، ونرى عليه بعض النقوش الهيروغليفية
نقترب لنتعرف على النقوش على الصناديق
فنجد أنها نقوش شديدة البدائية.. خطوط متعرجة.. رسوم ضعيفة مهزوزة!
يمكن لأي شخص الذهاب إلى سقارة بنفسه لمعاينة النقوش على الطبيعة.. صندوق هائل لامع مصقول من الجرانيت الأسود يتم الكتابة عليها بهذه الصورة الرديئة! كما أنه هو الصندوق الوحيد المكتوب عليه.. وكأنهم غفلوا عن باقي الـ 26 صندوقا الموجودين في أروقة المعبد
خرطوش فارغ !
إن اليد التي نقشت لا تعرف مدى قوة وصلابة الحجر.. وبالتالي استخدمت آلات لا تُناسب طبيعة اللوح.. يُمكن القول إن من نحت صندوقا من كتلة صخر واحدة بروعة فنية ليس هو نفسه من نقش عليه. إنها حضارة مختلفة تماما.
ثم ننظر إلى هذا الخرطوش! خرطوش خالي وكأن صاحبه قد نسى أن يكتب اسمه عليه.. أم أن النقوش مُزيفة؟! لماذا ينسبون تلك الصناديق الغامضة إلى غير أصحابها الحقيقيين؟
لماذا هذا الصندوق وحده دون باقي الصناديق المنقوش عليه؟ أم يُريدون نسب كل الصناديق لنقوش هذا الصندوق في عملية إهمال حضاري مقصودة؟!
نقوش عابثة على السطح المصقول .. لا يُمكن بأي حال ربط تاريخ النقوش وما تقوله.. بتاريخ صنع الصناديق.. هل إذا وجدنا خرطوشة ملكية لحاكم من الأسرة الـ 26 يُعد سببا كافيا لنسب التابوت إلى نفس الأسرة؟ كل ما حدث أن صناديق السرابيوم وُجدت خالية من النقوش.. فسطا عليها أحدهم. السرابيوم بكل ما فيه كان ينتمي للعصور الذهبية في عصر ما قبل الأسرات
رأيي الشخصي أن تلك النقوش جاءت بعد عصر الأسرات، فملوك عصر الأسرات كان لهم مهارة عالية أيضا في النقش، لكن أن تخرج النقوش بهذه الرداءة معناها إلى أن هذه كتابات حديثة، ربما تمت بعد اكتشاف تلك الصناديق مباشرة في القرن التاسع عشر.
فللنظر الآن إلى هذا الصندوق من الجرانيت الأسود في المتحف البريطاني وعليه نقوش من الكوارتز الأبيض .. حيث السطح شديد النقاء ويبدو كمرآة انظر كم تختلف تلك النقوش عن الأخرى من حيث القوة والإتقان والجمال اليد التي صنعت التابوت هي نفس اليد التي نقشت تلك الرسوم الرائعة عليه
هل هي صناديق أم أجهزة ؟
لنفترض أن أحدا من القرن السابع عشر جاء إلى زماننا ورأى جهاز تليفزيون مغلق.. ماذا سيقول؟ أغلب الظن سيعتقد أن هذا صندوقا.! هذا ما نراه نحن أيضا.. الآثاريون يرونها توابيت.. والتيار الحداثي يراها صناديق.. لكن هل هي فعلا صناديق؟
يجب أولا تحليل بعض المُعطيات من أجل الوصول ولو إلى جزء من الحقيقة
  1. إذا نظرنا  في صور النفق فلن نجد نقوشا أو زخارف على الجدران، بل فقط أنفاقا وممرات.
  2. الصناديق ليس أمام بعضها البعض.. بل كل صندوق في الناحية اليُمنى يقابله جدار في الناحية اليسرى والصندوق في الناحية اليسرى يقابله جدار في الناحية اليُمنى.
  3. الصناديق ليست كلها نفس الهيئة ولا مُصنعة من نفس المادة ولها تصاميم مختلفة، فمنها ما هو مصنوع من الجرانيت الأحمر ومنها من الكوارتز، وغيرها من البازلت، وأغطية بأشكال مختلفة، وآخر بغطاء له فتحتين عكس باقي الصناديق
Saqqara-Boxes
للصناديق تصاميم مختلفة، فمنها ما هو مصنوع من الجرانيت الأحمر، ومن الأسود والكوارتز، وأغطية بأشكال مختلفة، وغطاء له فتحتين عكس باقي الصناديق
معنى ذلك أن تلك الصناديق لا يُمكن أن تكونا توابيت العجل أبيس، وإلا ملأوا النفق والتوابيت بنقوش تقديس العجل.. وإلا أيضا لكانت التوابيت كلها متماثلة وبغطاء.. أما بهيئتها وسط النفق الصامت.. فذلك يعني أن تلك الصناديق في الحقيقة كانت أجهزة لها وظيفة أو وظائف محددة.. ربما توليد طاقة، أو آلات متقدمة .. وربما كانت تُملأ بسوائل ما في العصور القديمة.. لا نعلم على وجه التحديد. لكن يمكننا القول بأن السرابيوم ككل كان جزء من منظومة عملاقة.. ولم يتم حتى الآن الكشف عن باقي الأنفاق المتصلة، فربما كانت تتصل بأنفاق سقارة المجاورة لها، فسقارة لها مجموعتها الهرمية بأنفاقها.
من الممكن أي نتساءل عن لماذا لم نجد أي شيء في الأنفاق إلا الصناديق ؟ والإجابة هو أن أي مواد أخرى من سوائل أو معادن بالتأكيد كانت ستتحلل على مدار آلاف السنين ولن يتبقى سوى الحجارة.
من النقاط المثيرة كذلك في الصناديق أن بعضها مصقول وأملس كالحرير، وأخرى شديدة الخشونة كما لو أن دورهم في الصقل لم يحن بعد. أيضا هناك غرف خالية من الصناديق، وأجزاء من النفق لم يتم الانتهاء من العمل فيها.. وهو ما يشير أن العمل في السرابيوم قد توقف فجأة ولم يكتمل.. وأن مهندسو السرابيوم لم يتموا أعمالهم لسبب ما ! سنشرح لاحقا في المدونة عن أسباب توقف الأعمال الهندسية في مصر القديمة بسبب كارثة مفاجأة.
لكن من المنصف القول إن السرابيوم بآلاته (أو صناديقه) التي لا نفهم حتى الآن ما فائدتها، وكيف صُنعت، هو دليل آخر على العقلية الفذة لقدماء المصريين في فترة ما قبل عصر الأسرات.
فترة العصر الذهبي للحاضرة المصرية.
والتي تظل لغزا غامضا إلى يومنا هذا مستعص على الحل.
إنها حقا حضارة لم يُخلق مثلها في البلاد!
المصادر
    1. كتاب Auguste Mariette, Le Sérapéum de Memphis, découvert et décrit, Paris, Gide, 1857
    2. كتاب Auguste Mariette, Le Sérapéum de Memphis, Paris, F. Vieweg, 1892
    3. Jean Vercoutter, Textes biographiques du Sérapéum de Memphis: Contribution à l’étudedes stèles votives du Sérapéum, Paris, Librairie ancienne Honoré Champion, 1962
    4. فيديو صناديق سقارة من تعليق الباحث والآثاري يوسف أويان 
    5. كتاب Lost Technology in Ancient Egypt لمؤلفه Christopher Dunn.
    6. المصدر السابق.
تعليقات
الاسمبريد إلكترونيرسالة