الوعي الأثري أهميته ووسائل نشره
إذا أرادت أمة أن تحافظ على
تراثها الأثري، فلن تجد أفضل من الوعي الأثري سياجاً يحتضن هذا التراث، وكم
يحتاج هذا التراث الأثري ويتطلع إلى هذا الوعي، ويتلهف على إيجابية اليوم
وغداً. ويعني الوعي الأثري في أبسط كلمات إدراكاً حقيقياً لمعنى التراث
وأهميته وقيمته، وهو من إنجاز الأجداد القدماء. ويفتح هذا الإدراك كل السبل
أمام العناية والمحافظة على هذا التراث، ومن ثم يتبنى هذا الوعي الأثري
على مستوى الجماهير كل موجبات البحث والاهتمام بهذا التراث الأثري المعروف،
وكل ما نتوقع الكشف عنه باعتباره المصدر الأساسي والبكر لكتابة التاريخ
الصحيح الذي يجسد مبلغ اجتهاد أولئك الذين خلفوا هذا التراث، وهم الأجداد
المتحضرون.
ويعتبر الوعي الأثري- عندما
ينتشر على مستوي الجماهير العريضة من أبناء الشعب- خير تعبير بالفعل عن
مبلغ ما وصل إليه التحضر عند الشعب. وخير أمة أو خير شعب هو الذي يمتلك
الوعي الأثري، ويقدر تراث الأجداد، ولا يفرط فيه أبداً. وخير أمة أو خير
شعب متحضر هو الذي يحافظ على هذه الثروة الأثرية، ويعكف على دراستها،
وإتاحة الفرصة للآخرين للتعرف على قيمتها من وجهة النظر الحضارية.
ولا يبلغ الشعب هذه المرتبة من
الوعي من غير أن يعي تماماً أن من لا ماضي له لا خير في حاضر له. بل ويجب
أن تبقى جذور الحضارات القديمة قوية ثابتة ونابضة بالحيوية في الأرض الطيبة
التي نبتت فيها. ومن غير
الوعي الأثري (الذي يجسد معني المحافظة على الجذور الحضارية) يغيب عن الشعب
فهم الحقيقة التي تقول إن صياغة وبناء الحاضر لا يمكن أن تنبني إلا على
أساس هذه القاعدة الحضارية الراسخة العريقة. كذلك الأمر إذا غابت عنه أيضاً
الحقيقة التي تؤكد على أن قوة وأصالة الحاضر الحضاري – التي لا تنفصل عن
جذور الماضي الحضاري- تبث القوة والعزم والتصميم في تطلعات المستقبل
الحضاري.
والوعي الأثري هو نقطة البداية
في العمل الأثري. وهو الذي يهييء المناخ البشري المناسب لكل العمل المتخصص
في المسح الأثري، والتصوير الأثري، والتسجيل الأثري والتنقيب الأثري. وهو
الذي يضع العناية والمحافظة وحسن عرض الآثار على الدرب الصحيح من وجهة
النظر العلمية والعملية على حد السواء. وفي غيبة هذا الوعي الأثري يمكن أن
نتوقع كل شيء إلى حد انتهاك أو إهدار التراث الأثري أو التفريط فيه. بل قل
في غيبة الوعي الأثري يتبلد الحس الأثري تبلداً تتضرر بموجبه معايير
التقويم الصحيح للتراث الأثري، بل ولا نبالغ حين نقول أن مثل ذلك يؤدي إلى
قدر من التبلد الوطني، أعني فقدان الانتماء، وذلكم أخطر ما في الأمر.
ويتضح لمن يتابع نشأة وتطور علم
الآثار، تطوراً منهجياً استوجب انضمامه إلى زمرة العلوم الأكاديمية، ويدرك
تماماً مبلغ الصعوبات والتحديات التي تواجهها الدراسات الأثرية العلمية
الأكاديمية في غيبة الوعي الأثري. إن غياب الوعي الأثري في كثير من البلدان
التي قامت على أراضيها الطيبة حضارات قديمة في منطقة الشرق الأدنى، هو
المسئول أصلاً عن تأثير أو تردد أو تجمد الاهتمام الواعي بالآثار. بل هو
مسئول أيضاً عن تأخير انضمام علم الآثار في الوقت المناسب إلى زمرة العلوم
التي تتبناها الجامعات في إطار دورها الوظيفي الأكاديمي. والفرق كبير بين
علم الآثار الذي يدعمه ويشد أزره الوعي الأثري على أوسع مدى، وعلم الآثار
الذي يفتقد هذا الدعم ويتضرر في غيبة الوعي الأثري. وفي
غيبة الوعي الأثري كم تعرضت الثروة الأثرية في بلدان الشرق الأدنى للسلب
والنهب أو التدمير والتخريب. وفي غيبة الوعي الأثري تمتد الأيدي العابثة
التي تنهب أو تخرب، ولا هم لها غير الهدف المتجرد من كل دواعي الأمانة
والشرف. وسواء أكان الهدف الحصول على التحف الأثرية التي تتجمل بها القصور
أو المتاحف العالمية، أم كان الهدف الحصول على التحف الأثرية التي تتحقق
بها مكاسب كبيرة ، فإن الأيدي المخربة في الحالتين تنهب وتهرب وتدمر وتخرب
من غير وعي أثري أمين، أو في غيبة الوعي الأثري الأمين. ولقد ساعد على ذلك
الاستنزاف إغفال القيمة الحقيقية للتراث الأثري، ودون الوعي الأثري
الحقيقي.
وفي غيبة الوعي الأثري من جهة
المعنى الوطني والقومي على مدي القرون الثلاثة الأخيرة، واعتباراً من حوالي
القرن السابع عشر الميلادى، وفد الخطر الذي مس التراث الأثري في بلادنا
بكل سوء. وكم امتدت أيدي المغامرين والأفاقين من الأوروبيين الباحثين عن
الشهرة أو عن الثراء إلى المواقع الأثرية. وهم لم ينقبوا التنقيب الفني عن
الآثار، بل قل كانوا ينبشون نبشا مخرباً للتراث في المواقع الأثرية. وهم
أيضاً الذين تحايلوا على تهريب بعض القطع الأثرية الفنية النادرة التي لا
تقدر بثمن، والناس أصحاب هذا التراث في غفلة، لأنهم لا يملكون الوعي
الأثري، بقيمة هذا التراث، وخطورة العبث به. ومنذ القرن الثامن عشر، وفي غيبة الوعي الأثري، والتراث المصري الأثري العزيز يتعرض لامتداد وتلاعب الأيدي العابثة.
وهذه هي عين ما تعنيه الخسارة
الفادحة في غيبة الوعي الأثري، وتشهد على هذه الخسارة والعواقب الوخيمة
تاريخياً وحضارياً التحف الأثرية المصرية التي اختلستها هذه الأيدي. وتجد
هذه التحف التي نقلت خلسة، وفي غيبة الوعي الأثري، وهي تزين متاحف أوروبا
والمجموعات الأثرية الخاصة في القصور العتيقة. ولقد حدث هذا كله ويمكن أن
يحدث أكثر منه في غيبة هذا الوعي، ومن ثم تصبح يقظة الوعي الأثري ونشره على
مستوى الجماهير ضرورة أو مسألة وطنية. وتبدو هذه المسألة أكثر من ملحة
لحماية التراث الأثري المصري، ومواجهة عوامل الاستنزاف والتخريب.
وعلى صعيد المسئولية، لا يمكن
لجهة معينة أن تتحمل وحدها مسئولية نشر الوعي الأثري. والأولى أن تشترك في
تحمل هذه المسئولية جهات متعددة تمثل زمرة الشركاء في المسئولية على كل
المستويات. ويتألف فريق الشركاء في مسئولية التوعية الأثرية على أوسع مدي
وبين كل أفراد الشعب، وزارة الثقافة، والمجلس الأعلى للآثار، ووزارة
التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة السياحة، ووزارة الأوقاف،
ووزارة الشباب، ووزارة الإعلام. وينبغي أن يتألف مجلس متخصص للتنسيق لكي
يحسن توظيف كل شريك في هذه المسئولية التوظيف الأنسب لبث روح ومنطق
التوعية. هذا، ويملك هذا
المجلس الذي ينسق ويقر سياسة التوعية الأثرية أو بث روح ومنطق الوعي الأثري
أن يفعل الكثير في إطار مسئولياته. ويتمثل خير ما ينبغي أن يفعل فيما يلي:
أولاً:
تكليف وتوجيه وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة بالبث الذي يعالج
ويعبر عن الخلفية الحضارية القديمة، والذي يضع الإنسان المصري الذي أبدع
التراث الحضاري المادي في مكانته العالية المرموقة، بل يجب أن يبشر بحتمية
العناية بالتراث الأثري الذي يجسد الإنجاز العظيم والعطاء القيم الذي خلفه
الأجداد، وأنه ليس ملكاً لأحد، ولكنه ملك لكل مواطن على الصعيد المصري،
وينبغي أن تقدم لهم جميعاً النصح، وتدعوهم إلى احترام وحسن تقويم التراث
الأثري، وكف الأذى عن الآثار في مواقعها، وكأن كل واحد منهم مسئول بذاته
شخصياً عن العناية بها وحراستها. بل
وينبغي أن تحث برامج البث وإذاعة ونشر الوعي الأثري على مستوى الجماهير
الناس جميعاً على تقديم ما لديهم من آثار باختيارهم، والإعلان الصريح عنها،
والتنازل عنها مقابل حوافز مادية ومعنوية. وهذا الدور الذي يبصر ويبث
الوعي الأثري وينشره ويثريه ويبقي عليه متيقظاً وعينه لا تغفل - يمكن أن
تقوم به الإذاعة والتليفزيون والصحف في تكامل وتنسيق مناسب.
ثانياً: توسيع
دائرة إنشاء المتاحف الإقليمية في المدن الرئيسية وعواصم المحافظات، كما
يستحسن الاستمرار في إنشاء بعض المتاحف في بعض المواقع الأثرية المنتخبة.
وفي كل الحالات يمكن أن يضم المتحف الإقليمي بعض القطع الأثرية المناسبة في
إطار المكان. هذا بالإضافة إلى اصطناع بعض النسخ من الآثار التي لا تتكرر،
أو الثمينة أو يقتنيها المتحف الرئيسي للآثار في العاصمة، وعرضها للبيع
إلي الجمهور، ومن ثم فبالتعايش بين الناس والطلاب غير الجامعيين وبين
الآثار - يمكن أن تبدأ كل المؤثرات التي تربي وتبث منطق وروح وفلسفات الوعي
الأثري على أوسع مدى، هذا بالطبع إلى جانب إتاحة مثل هذا التعايش
بالمشاهدة وأساليب العرض والشرح بالمتاحف.
ثالثاً:
توصية الوزارات المعنية، وزارة التربية والتعليم لكي تتبنى نشر الوعي
الأثري بين الطلاب في المراحل التعليمية الإلزامية والإعدادية والثانوية
العامة والفنية. وقد تحبذ التوصية إدخال البرامج التعليمية المناسبة لكل
مستوي من هذه المستويات، لكي يتعلم الطلاب شيئاً مناسباً عن الآثار ضمن
مقررات التاريخ، وفي مقررات متخصصة ومنفصلة أحياناً أخرى. وينبغي أن تضاف
إلى ذلك مهمة إعداد وتنشيط بعض الرحلات التي تنظمها المدرسة، وتضع الطلاب
في مواجهة مباشرة مع الآثار في المتاحف بالمحافظات أو في المتاحف الرئيسية
في القاهرة وغيرها، أو في المواقع الأثرية ومواقع التنقيب.
رابعا:
تنشيط السياحة الداخلية، والرحلات السياحية العامة والخاصة، ودعم وتكثيف
وسائل النقل التي تخدم هذه السياحة إلى المتاحف أو إلى المواقع الأثرية.
ومن الضروري أن تكلف وزارة السياحة من خلال بعض الشباب المتخصص في الإرشاد
السياحي والآثار بمصاحبة واستقبال وفود السياحة الداخلية، والطواف معهم
وتزويدهم بالمعلومات والبيانات الصحيحة والمناسبة عن الآثار في مكان
الزيارة بصفة خاصة، وعن التراث الأثري المصري بصفة عامة. وقد يدعو الأمر
إلى توزيع بعض النشرات المكتوبة عن هذه الآثار بعناية بالغة.
خامساً: توجيه
مراكز الشباب في المدن والأقاليم ومراكز الثقافة والأندية الاجتماعية
لتبني الوعي الأثري بين الرواد والأعضاء. ويتعين إقامة ندوات أحياناً،
ومحاضرات عامة أحياناً أخرى، يشترك فيها المتخصصون، من أجل نشر الوعي
الأثري بين الرواد والمستمعين. ويستحسن أن يكون الحديث عن الآثار مصحوباً
ببعض الصور والشرائح والأفلام السينمائية الملونة. وقد تتولى هذه المراكز
تنظيم بعض الرحلات إلى مواقع الآثار أو إلى المتاحف الإقليمية إلى أقرب
المواقع من مقار المراكز المعنية بنشر الوعي الأثري على مستوي الجماهير.
سادساً: توصية
أو تكليف بعض الجهات المتخصصة (مثل الجامعات والمجلس الأعلى للآثار)
بتنظيم دورات تثقيفية عن الآثار. وينبغي أن ينضم العاملون من ذوي العلاقة
إلى هذه الدورات التثقفية الأثرية. وسواء أكانت هذه الدورات منتظمة دورية
أم غير وردية، فإنها تنشط المعرفة بالتاريخ الحضاري المصري عبر كل العصور،
وتاريخ الأثر، وعلم الحفائر، والمواقع الأثرية القديمة، واليونانية
والرومانية، والمسيحية والإسلامية، على الصعيد المصري. هذا بالإضافة إلى
دروس خفيفة في قراءة اللغة المصرية القديمة.
سابعاً: تكليف
المجلس الأعلى للآثار بعملية النشر العلمي عن الآثار المصرية. وينبغي أن
يتولى هذا المجلس نوعين على الأقل من النشر العلمي الأثري. ويتمثل النوع
الأول في إصدار المجلة أو النشرة الدورية المنتظمة التي تنشر بلغة أجنبية،
واللغة العربية. وأن تنقل إلى العربية الأبحاث المكتوبة بلغة أجنبية،
ويتمثل النوع الثاني في نشر البحوث والكتب التي تعالج موضوعات عن الآثار
المصرية نشرا خاصا وغير منتظم. ويراعي في الحالتين تبادل هذا النشر مع
الهيئات المناظرة على الصعيد العربي الإقليمي وعلى الصعيد العالمي. وليس
أهم بعد ذلك كله من انتهاز بعض الأحداث ذات العلاقة بالآثار، وحسن استخدام
هذه الأحداث لحساب الوعي الأثري، والمهم أن نجعل منها وكأنها الصدمات
الكهربية التي تهز الحس الأثري هزاً شديداً، أو التي تثير انتباه الوعي
الأثري، وقد يتمثل الحدث في إنقاذ بعض الآثار الهامة، بمعنى الكوارث
الطبيعية التي تهدد بعض المواقع الأثرية أو الآثار التي يمكن أن توظف في
خدمة الوعي الأثري، والاكتشافات الأثرية يمكن أن توظف لنفس الغرض.
ومهما يكن من أمر، فإنه ينبغي أن
نعرف كيف تتخطى الجماهير الحد الفاصل بين اللاوعي بقيمة الآثار إلى الوعي
الكامل بالآثار المصرية وأن نرسخ في الأفراد الإحساس بالمهابة والعزة
والتقدير لتراثهم. ولقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات التي تبشر بالخير في
الوقت الحاضر، وتجسد هذه المؤشرات انتعاش الوعي الأثري بين أفراد الشعب
المصري، وهو في أشد الحاجة إليه في هذه المرحلة التاريخية. ومن هذه
المؤشرات المبشرة الإقبال على زيارة المتحف، والإقبال على طلب ودراسة علم
الآثار في الصفوف الجامعية، وطرح قضايا الآثار للمناقشة في بعض المجالس
الخاصة بين زمرة المثقفين، وأول الغيث قطرة. هذا،
وإذا كانت دراسة الآثار تعتمد في المقام الأول على الدراسة الميدانية،
وعلى التعامل المباشر مع الآثار في مواقعها، فإن العمل في ظل الوعي الأثري
السائد بين عامة الناس يؤمن البحث ويهيئ له فرص النجاح. ومن غير هذا الوعي
الأثري لا يعرف الناس كيفية العناية بالآثار، ولا حتمية الحماية التي تحافظ
على كنوزها الثمينة. بل قل من غير الوعي الأثري لا تتحقق أي من موجبات
الأمن التي تضمن العمل العملي الباحث عن الآثار في مواقع التنقيب، أو الذي
يحيط الآثار في مواقع التنقيب بعناية، ويشل الأيدي التي تمتد إليها بأي
سوء، وكأن الوعي الأثري هو سياج من أسوجة الأمن التي تنشدها الثروة الأثرية
المصرية.
تعليقات